ثمة مجموعة من القيود تفرضها الولايات المتحدة الأميركية على إدارة الاقتصاد العالمي، كان بدايتها بعد الحرب العالمية الأولى، حيث تفردت أميركا كونها أكبر اقتصاد في العالم، ما دفع النظام الاقتصادي العالمي لاعتماد الدولار كعملة رئيسة لتسوية تعاملات التجارة الدولية.
وانتقلت مظاهر سيطرة واشنطن على مقدرات الاقتصاد العالمي، لآليات السياسة النقدية والمالية، حيث أصبحت أميركا وجهة لاستقبال ثروات العالم، عبر توظيف الاستثمارات المباشرة من جهة، ومن جهة أخرى إصدار سندات الخزانة الأميركية باعتبارها الملاذ الآمن، لتوظيف احتياطيات البنوك المركزية من النقد الأجنبي بكافة دول العالم.
أخيراً، نشرت وسائل الإعلام حجم مساهمة الدول الأجنبية في سندات الخزانة الأميركية، والتي تقدر بنحو 6.2 ترليونات دولار، تأتي الصين واليابان على رأس قائمة المستثمرين في هذه السندات، حيث تحتل الصين المرتبة الأولى برصيد 1.2 ترليون دولار، ثم اليابان بنحو 1.1 ترليون دولار.
ومن هنا نجد أن حصاد أداء اقتصاد متقدم منذ السبعينيات مثل اليابان، أو اقتصاد صاعد منذ التسعينيات، تصب ثمارات أدائهما الاقتصادي، مرة أخرى، لصالح الاقتصاد الأميركي، ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فجزء لا يستهان به من ثروات الدول النفطية (العربية وغير العربية) يعود، أيضاً، لصالح الاقتصاد الأميركي، عبر بوابة سندات الخزانة الأميركية.
فما نشرته الخزانة الأميركية عن مساهمة دول العالم في استثمارات سندات الخزانة، بيّن أن الدول النفطية العربية، توظف نحو 231 مليار دولار في تلك السندات، وتأتي السعودية على رأس استثمارات الدول النفطية العربية في تلك السندات بنحو 116 مليار دولار، ثم الإمارات بنحو 62 مليار دولار.
ولا تعد الاستثمارات في سندات الخزانة الأميركية المورد الوحيد أو الأكبر لأميركا، فهي تستحوذ على النصيب الأكبر من تدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة.
فإحصاءات قاعدة بيانات البنك الدولي، توضح أنه في الفترة من 2006 – 2014 استقبلت أميركا حوالي 2.2 تريليون دولار، وإن كانت في بعض السنوات قد تقدمت الصين على أميركا كأكبر متلقي للاستثمارات الأجنبية، إلا أن بيانات السنتين الأخرتين توضح أن أميركا عادت للصدارة مرة أخرى كأكبر متلقي لتدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة.
تعد سيطرة أميركا على مقدرات الاقتصاد العالمي، واحدة من مهددات السياسة النقدية في العالم، حيث تدير القضايا الخاصة بالسياسة النقدية في العالم من خلال مصالحها، فعندما عانت أميركا من ركود وانخفاض في قيمة عملتها، اتجهت إلى تخفيض سعر الفائدة لمعدلات اقتربت من الصفر لما يزيد عن عقد من الزمن في مطلع الألفية الثالثة، كما لم تعبأ أميركا بما تتكبده دول العالم من انخفاض أسعار الفائدة على استثماراتها الضخمة في أميركا سواء كانت تلك الاستثمارات في سندات الخزانة الأميركية، أو الاستثمارات المباشرة في مجالات متعددة.
وحينما أرادت أميركا أن تحدث نوعاً من الرواج برد جزء من سنداتها الحكومية قدرت بنحو 600 مليار دولار في عام 2010، حملت دول العالم تكلفة هذا الإصدار النقدي، وأحدثت حالة من الهلع في اقتصاديات الدول الصاعدة، التي تخوفت من موجات تضخمية نتيجة محاولة خروج هذه الأموال من أميركا إلى أسواقها، وبخاصة في مجال أسواق المال، التي تعاني من ظاهرة الأموال الساخنة.
إن الثمن الذي تدفعه دول العالم نتيجة ارتباط اقتصاداتها بالدولار، ليس فقط مجرد انخفاض العائد على استثمارات تلك الدول بأميركا، ولكن استمرار تبعية السياسات النقدية لهذه البلدان بالسياسة النقدية الأميركية، حيث إن سعر الفائدة يظل مرتبطاً ارتفاعاً وانخفاضاً بالوضع في أميركا، لذلك يطالب العديد من الاقتصاديين بفك ارتباط هذه الاقتصاديات عن الدولار، وبخاصة بعد الأزمة المالية العالمية في 2008، وضرورة تكوين سلة عملات باقتصاديات تلك الدول، وأن يبحث العالم عن نظام نقدي جديد، يحرر اقتصاد العالم من ربط مصيره بعملة واحدة وهي الدولار منذ عام 1948.
إن سيطرة سندات الخزانة الأميركية لا تتوقف على استحواذها على هذا الحجم الكبير من ثروات الدول الأخرى، ولكنها تتعدى ذلك لتكون المحدد الرئيس لاتجاه أسواق الفائدة في العالم، فكل الاستثمارات أو قرارات القروض بالمؤسسات الدولية أو التجارية، تتخذ من سعر فائدة سندات الخزانة مؤشراً تبني عليه قرارها في تحديد أسعار الفائدة لعقودها الحالية والمستقبلية.
" استثماراتالعرب فيأميركا ليستبالحجم الكبيركما كانيعتقد في السابق"
في أي اقتصاد هناك ثمن مدفوع للحصول على العملات الأجنبية لتكون مكوناً رئيسياً لاحتياطيات النقد الأجنبي بجوار الذهب، وعادة ما يكون ذلك نتيجة صادرات للدول الأخرى، سواء كانت تلك الصادرات سلعية أو خدمية، أما أميركا فإنها تدفع ثمناً زهيداً نتيجة استقبالها كافة ثروات العالم، عبر سلة سندات الخزانة أو الاستثمارات المباشرة، وهذا الثمن يتمثل في طبع الدولار، الذي لا يكلفها شيئاً سوى ثمن ورق الطباعة وأجور العاملين بالمطبعة.
وتجني أميركا، دوماً، خروجاً آمناً لأزماتها الاقتصادية عبر توفير التمويل بلا مقابل، وإعادة تدوير ثروات العالم، على مدار عقود، لقد أصبحت الأرصدة المرتفعة من احتياطيات النقد الأجنبي في العديد من الدول عبأ على حائزيها، ولا تجد من مخرج سوى التوجه لاستثمارها، مرة أخرى، في أميركا، وبخاصة في سندات الخزانة، التي تتميز بقدرة كبيرة من السيولة.
قد يكون بعضهم صُدم بقلة مساهمة الدول النفطية العربية في استثمارات سندات الخزانة الأميركية، فمبلغ 231 مليار دولار لا يمثل شيئاً في إجمالي استثمارات سندات الخزانة الأميركية المقدرة بـ 6.2 تريليونات دولار، ولكن حقيقة الأمر أن العرب لهم استثمارات أخرى، غير التواجد بسوق سندات الخزانة الأميركية، يتمثل في الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وبخاصة في مجال السياحة والعقارات، وفي مجال آخر بالاستثمارات غير المباشرة وهو سوق الأسهم.
ويعيب الوضع العربي في ما يتعلق بحجم استثماراته في الخارج بشكل عام، أنها مبهمة، ولا تفصح عنها الدول العربية، ولكن تأتي هذه البيانات من الخارج، كما تم الإفصاح عنه في مجال الاستثمارات في سندات الخزانة الأميركية، فلولا خروج تلك البيانات من أميركا لظلت مبهمة، وتترك للتقديرات هنا وهناك.
أشار بعضهم إلى إمكانية أن تمثل ورقة الاستثمار، بسندات الخزانة الأميركية أداة ضغط في يد العرب لتوجيه السياسات الأميركية في ما يتعلق بالقضايا العربية، أو الخليجية، تحدياً، أو السعودية بشكل أكثر تحديداً، ولكننا إذا نظرنا إلى مساهمة السعودية في تلك السندات نجدها بحدود 116 مليار دولار، وهي معرضة للتناقص كما أشارت إلى ذلك البيانات الأميركية. ولا يتوقف الأمر على محدودية تأثير المساهمة السعودية من حيث قيمة استثماراتها، ولكن كون السوق الأميركية كبيرة، ومن السهل تغطية حصة السعودية من دول أخرى. ولا ننسى أن إيران جاهزة لتحل محل السعودية في سوق سندات الخزانة الأميركية، بعد رفع العقوبات الاقتصادية عنها.